فصل: تفسير الآيات رقم (1- 5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏213- 220‏]‏

‏{‏فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ‏(‏213‏)‏ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ‏(‏214‏)‏ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏215‏)‏ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏216‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏217‏)‏ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏218‏)‏ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ‏(‏219‏)‏ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏220‏)‏‏}‏

فلا تدعُ مع الله الها آخر‏:‏ لا تعبد غير الله‏.‏ واخفضْ جناحك‏:‏ ترفّق بمن اتبعك من المؤمنين، وكن ليِّناً معهم‏.‏ وتقلُّبك في الساجدين‏:‏ يراك مع المصلين حين تصلّي‏.‏

أخلِص العبادة لله وحده، ولا تشرك به سواه، كما يدعوك قومك، فإن فعلت ذلك كنتَ منن المعذَّبين وانذر أقرب الناس اليك من عشريتك‏.‏

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال‏:‏ «لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، وأتى» الصَّفا «فصعد عليه ثم نادى‏:‏ يا صباحاه، فاجتمع الناس اليه، فقال‏:‏ يا بني عبدِ المطّلب، يا بني فِهر، يا بني لؤي، ارأيتم لو أخبرتكم ان خيلاً بسفح هذا الجبل تريد ان تغير عليكم صدقتموني‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديدز فقال ابو لهب‏:‏ تباً لك سائر اليوم، اما دعوتنا الا لهذا»‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏‏.‏

‏{‏واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين‏}‏ ألنْ جانبك، وترفّق مع المؤمنين‏.‏

‏{‏فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏

فإن عصاك من انذرتَهم من العشيرة وغيرهم فلا ضير عليك، وقد أديت ما أُمرت به، وقل لهم اني بريء منكم ومن شِرككم بالله‏.‏

وتوكل على الله وفوِّض جميع امورك اليه، وهو الذي يراك حين تقوم للعبادة، ويراك وانت تصلّي بين المصلين، انه هو السميع لدعائك وذكرك، العليم بنيتّك وعملك انت وجميع العباد واقوالهم وأفعالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏221- 227‏]‏

‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ‏(‏221‏)‏ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏222‏)‏ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ‏(‏223‏)‏ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ‏(‏224‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ‏(‏225‏)‏ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ‏(‏226‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ‏(‏227‏)‏‏}‏

انبئكم‏:‏ أخبركم‏.‏ كل أفّاك‏:‏ كل كذاب، أثيم‏:‏ مجرم كثير الذنوب‏.‏ يُلقون السمع‏:‏ يصغون اشد الاصغاء الى الشياطين، فيتلقون منهم‏.‏ الغاوون‏:‏ الضالون‏.‏ في كل واد يهيمون‏:‏ في كل مكان يسيرون وراء خيالاتهم‏.‏ أيّ منقلَب‏:‏ اي مرجع ومآب‏.‏

لقد اتهمت قريش النبيَّ صلى الله عليه وسلم ان الشياطين هي التي توحي اليه القرآن، فردّ عليهم ان الشياطين لا تُنَزل على الانبياء، بل على الكذّابين الآثمين المنحرفين الذين تلقي اليهم الإفكَ والكذب، وهم كاذبون يختلقون من عندهم ما يقولونه لأتباعهم‏.‏ وأنّ الشعراء يتّبعهم الضالون الحائدون عن الطريق القويم، ألم تَرَ أنهم يجرون وراء خيالهم في ضروب من القول، ويقولون ما لا يفعلون‏!‏

ولما وصف الشعراء بهذه الاوصاف الذميمة استثنى منهم المؤمنين المتصفين بالصفات الحميدة من الايمان، والعمل الصالح، والقول الصادق، وعدمِ هجاءِ الناس واختلاق الاقوال السيئة مثلَ حسّان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك وغيرهم رضوان الله عليهم‏.‏ والى هذا اشار بقوله تعالى‏:‏

‏{‏إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ‏}‏‏.‏

روى ابن جرير‏:‏ «انه لما نزلت هذه الآية جاء حسّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب ابن مالك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم محزونون وقالوا‏:‏ قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء، فتلا النبي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ وقال‏:‏ انتم‏.‏ ثم تلا ‏{‏وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً‏}‏ وقال‏:‏ انتم‏.‏ ثم ‏{‏وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ‏}‏ وقال‏:‏ انتم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ يعني بردّهم على المشركين، ثم قال لهم رسول الله‏:‏» انتصِروا ولا تقولوا إلا حقا، ولا تذكروا الآباء والامهات «

ثم ختم الله السورة بالتهديد العظيم، والوعيد الشديد للكافرين فقال‏:‏

‏{‏وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ‏}‏

سيعلم الظالمون أي مصيرٍ ينتظرهم من الهلاك والشرّ والعذاب‏.‏

سورة النمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

يعمهون‏:‏ يتحيرون، ويترددون في الضلال‏.‏ الأخسَرون‏:‏ أشد الناس خسرانا‏.‏

طاسين‏:‏ هكذا يقرأ هذان الحرفان، وتقدم الكلام في المراد من فواتح السور، وان الأصح انها جاءت تنبيهاً الى سر الاعجاز في القرآن مع الاشارة الى انه من جنس ما يتكلمون ولتنبيه الاذهان للاستماع اليه‏.‏

‏{‏تِلْكَ آيَاتُ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏

هذه الآيات التي انزلتها اليك ايها الرسول هي آيات القرآن، وهو كتاب واضح بيّن لما تَدبره وفكر فيه انه من عند الله‏.‏

‏{‏هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏

هذا الكتاب هو الدليل الذي يهدي الناسَ الى سعادتهم في الدنيا والآخرة، وهو يشير المؤمنين بأن اله سيُدخلهم جناتٍ لهم فيها نعيم مقيم‏.‏ ‏{‏الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏

هذا وصفٌ للمؤمنين بأنهم آمنوا بالله، وعملوا الأعمالِ الصالحة، فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وآمنوا ايمانا صادقا بيوم القيامة والبعث والجزاء، فالايمان وحده لا يكفي‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ‏}‏‏.‏

اما الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء فقد زينّا لهم أعمالَهم السيئة، ومددْنا في غَيِّهم فهم يترددون في ضلالهم، فلهم في الدنيا سوءُ العذاب بقتلِهم وأسْرِهم، وهم في الآخرة أعظمُ خسراناً مما هم فيه في الدنيا، لنه عذابٌ مستمر لا ينقطع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 14‏]‏

‏{‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ‏(‏6‏)‏ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏7‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏8‏)‏ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏10‏)‏ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏12‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

لتلقَّى‏:‏ لتعطى، لتلقَّن‏.‏ آنست‏:‏ أبصرت‏.‏ بشهاب‏:‏ بشعلة نار‏.‏ قبس‏:‏ قطعة من نار‏.‏ تصطلون‏:‏ تستدفئون‏.‏ جان‏:‏ حية سريعة الحركة‏.‏ ولّى مدبرا‏:‏ هرب راجعا‏.‏ ولم يعقّب‏:‏ لم يرجع، ولم يلتفت‏.‏ من غير سوء‏:‏ يعني ان يده صارت بيضاء من غير مرض كالبرص ونحوه‏.‏ آيات‏:‏ معجزات دالة على صدقك‏.‏ مبصِرة‏:‏ واضحة، بينة‏.‏ حجَدوا بها‏:‏ كذّبوا بها‏.‏ استيقنتْها انفسُهم‏:‏ علمتُ علما يقينا انها من عند الله‏.‏ علوّا‏:‏ ترفعا واستكبارا‏.‏

‏{‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ‏}‏

وانك أيها الرسولُ لتتلقى القرآن وتتعلّمه من عند الله، الحكيم بتدبيرِ خلقه، العليم بأخبارهمن وما فيه خير لهم‏.‏ وما هو من عندك كما يزعم الجاحدون‏.‏

واذكر ايها الرسول لقومك خبراً عن موسى وهو عائد من «مَدْيَن» الى مصر ومعه زوجته، وكانا يسيران ليلاً فاشتبه عليهما الطريقُ، والبرد شديد‏.‏ فرأى موسى ناراً فقال لأهله‏:‏ سآتيكم منها بخبرٍ عن الطريق، أو آتيكم بشعلةٍ لعلّكم تستدفئون بها من البرد‏.‏ فلما وصل المكان الذي رأى فيه النارَ ناداه الله‏:‏ إن الله باركَ من في مكان النار ومن حولَها‏.‏ ‏(‏واللهُ منزّهٌ عن مشابهة المخلوقين‏)‏ يا موسى‏:‏ إني انا الله المستحقّ للعبادة وحده، العزيزُ الذي لا يُقهر، الحكيم في أقواله وأفعاله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ أَلقِ عصاك‏.‏ فلما ألقاها رآها تهتز وتنقلب الى حيّة عظيمة‏.‏ فهرب موسى منها ولم يلتفت وراءة من شدة الخوف‏.‏ فطمأنه الله بقوله‏:‏ لا تخفْ، ان المرسَلين لا يخافون وأنا معهم‏.‏ لكنّ من ظلم وعمل شيئا غير مأذون فه، ثم بدّل حُسناً وتابَ بعد هفوة ‏{‏فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

وأخلْ يَدك في جيبك تخرجْ بيضاء من غير بَرَصٍ او مرض‏.‏ وكان موسى أسمر البشرة‏.‏ اذهبْ إلى فرعونَ وقومه في تسع آيات انهم كانوا قوماً خارجين عن امر الله‏.‏ والآياتُ التسع هي‏:‏ فلْق البحر، والطوفان، والجراد، والقملَّ، والضفادع، والدم، والجدْب، والعصا، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء‏.‏

فلما جاءت هذه الآيات واضحةً ظاهرة الى فرعون وقومه قالوا‏:‏ هذا سِحر، وكذّبوا بها ظلمات واستكبارا، فانظر ايها النبي كيف كانت عاقبة المفسدين‏.‏

هذا عرضٌ سريع لقصة سيدنا موسى التي تكررت في الأعراف وطه والإسراء والشعراء يعرضها سبحانه وتعالى ليسلّي رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ اهل الكوفة‏:‏ بشهابٍ قبسٍ، بالتنوين‏.‏ والباقون‏:‏ بشهابِ قبسٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 19‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏15‏)‏ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏17‏)‏ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

منطِق الطير‏:‏ لغته‏.‏ حشر‏:‏ جمع‏.‏ يوزعون‏:‏ يمنعون من الفوضى ويسيرون بانتظام‏.‏ لا يحطمنّكم‏:‏ لا يهلكنكم‏.‏ أوزِعني‏:‏ يسِّر لي شكر نعمتك‏.‏

ذُكرت قصةُ داود في تسع سورة هي‏:‏ سورة البقرة والنساء والمائدة والأنعام والإسراء والأنبياء وسورة النمل، وسبأ، وص، وورد ذكر سليمان في سبع سور هي‏:‏ البقرة والنساء والأنعام والأنبياء والنمل وسبأ، وص‏.‏

وجاء ذكر داود هنا فقط، وبُسطت قصةُ سليمان بتوسع في هذه السورة اكثر مناه في اية سورة اخرى، وركزت على قصة سليمان مع الهدهدِ وملكةِ سبأ، ثم مشهد موكبه العظيم، وتحذير نملة لقومها من هذا الموكب، وبذلك سُميت السورة «سورة النمل» وذلك من الآية 15 الى الآية 44‏.‏

ولقد اعطينا داود وسليمان عِلما، فَحَمِدا الله على ما أولاهما، وفضّلهما بذلك على كثير من المؤمنين‏.‏ ويتبين لنا من الآية الكريمة فضلُ العلم وشرفه وشرف أهله، وأن الإسلام قام على العلم كما ورد في اول ما نزل منه‏:‏ ‏{‏اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وفي آيات كثيرة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ‏}‏ سورة المجادلة‏.‏

وقد آل الحكمُ والنبوة من داودَ إلى سليمان ابنه، الذي أخبرَ الناسَ تحدُّثاً بنعم الله عليه بأنه أثوتي فَهْمَ لغة الطير، وانه مُنح من جميع النعم قسطاً وافرا، وان هذا الذي آتاه الله لهو الفضل الكبير‏.‏ وقد دلّت الابحاث الحديثة على ان لكل جماعةٍ من الطير طريقة خاصة تتفاهم بها الأفراد‏.‏

وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يتلاحقون، حتى اذا مروا بوادٍ فيه نمل كثير قالت نملة لجماعتها‏:‏ يا معشر النمل، ادخلوا مساكنكم لا يهلكنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بكم‏.‏ فسمعها سليمان فتبسم ضاحكا متعجباً من قولها، وسأل الله تعالى ان يلهمه شكره على ما انعم عليه وعلى والديه من عِلم وملك، وان يوفقه للعمل الصالح الذي يرضاه، وان يدخله في رحمته وكرمه وفضله ويجعله من جملة عباده الصالحين‏.‏

وقد كتب كثير من الكتاب والباحثين عن معيشة النمل ونظامها، وما لها من عجائبض في معيشتها وتدبير شئونها، ومثابرتها على العمل‏.‏ وانها تتخذ القرى في باطن الارض، وتخزن قوتها لأيام الشتاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 26‏]‏

‏{‏وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ‏(‏20‏)‏ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏21‏)‏ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ‏(‏22‏)‏ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏24‏)‏ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏25‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

تفقّد الشيء‏:‏ سأل عنه وطلب معرفة احواله‏.‏ بسلطان مبين‏:‏ بحجة واضحة‏.‏ أحطتُ بما لم تحط به‏:‏ علمتُ أشياء لا تعرفها‏.‏ سبَأ‏:‏ ابو قبيلة من اليمن، ومملكة ظهرت في شرق المنطقة المعروفة الآن باسم صِرواح ومأرِب فسميت البلاد باسمها، واليها تنسب اللغة السبئية والديانة السبئية‏.‏ بنبأ‏:‏ بخبر عظيم‏.‏ العرش‏:‏ سرير الملك‏.‏ فصدّهم عن السبيل‏:‏ منعهم عن طريق الحق والصواب‏.‏ يُخرج الخبء‏:‏ يخرج المخبوء من كل شيء‏.‏

وتفقد سليمان جماعةَ الطير التي تجتمع عنده فلم يجد الهدهد، فقال‏:‏ أين الهدهد، فقال‏:‏ أين الهدهد، اين غاب عني‏؟‏ ثم توعده بالعذاب اذا لم يجدْ سبباً يبرر به غيبته، او يأتِهِ بحجّة واضحة تظهر له عذره‏.‏ وجاء الهدهد بعد غياب قليل وقال لسليمان‏:‏ علمتُ ما لم تعلم، وجئتك من دولة سبأ بخبرٍ ذي شأن عظيم‏.‏ إني وجدتُ في سبأ امرأةً تحكمهم، أوتيتْ من كل شيء يحتاج اليه الملوك في تَرَفِهم، ولها عرش عظيم‏.‏ وهي وقومها يعبدون الشمس ولا يعبدون الله، لقد زيَّن الشيطانُ لهم عبادتعهم وأبعدهم عن دين الله فهم لا يهتدون، وأمَرَهم ان لا يسجدوا لله الذي يُخرج كل شيء مخبوء في السماوات والأرض، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه ‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم‏}‏‏.‏ وهنا موضع سجدة‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير‏:‏ «اوليأتينَّني» بنونين، والباقون‏:‏ «او ليأتينّي» بنون واحدة‏.‏ قرأ عاصم‏:‏ «ومكَث» بفتح الكاف‏.‏ والباقون‏:‏ «ومكُث» بضم الكاف وهما لغتان‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ وابو عمرو «من سبأَ» بتفح الهمزة على انه ممنوع من الصرف، والباقون‏:‏ «من سبأ» بالتنوين والجر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 35‏]‏

‏{‏قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ‏(‏29‏)‏ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏30‏)‏ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ‏(‏32‏)‏ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ‏(‏33‏)‏ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

تولّ عنهم‏:‏ تنحّ، ابعد عنهم‏.‏ ماذا يرجعون‏:‏ ماذا يدور بينهم‏.‏ الملأ‏:‏ اشراف القوم‏.‏ ألاّ تعلو عليَّ‏:‏ الا تتكبروا‏.‏ مسْلِمين‏:‏ منقادين‏.‏ افتوني‏:‏ أشيروا علي‏.‏ ما كنت قاطعةً أمراً‏:‏ ما كنت لأعملَ أي شيء‏.‏ حتى تشهَدون‏:‏ حتى تحضرون‏.‏

أراد سليمان ان يختبر الهدهد‏:‏ أصادق هو ام كاذب‏.‏‏؟‏ فأعطاه كتاباً ليوصله الى ملكة سبأ، واسمُها بلقيس‏.‏ ذهب الهدهد بالكتاب وألقاه على سريرها، فاخذته فإذا به‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ‏}‏‏.‏

لم ترِد الملكة ان تستبدّ بالجواب، شأن بعض الملوكن فجمعتْ رجال دولتها وأشراف القوم وأطلعتْهم على الكتاب‏.‏ فأخذتهم العِزّةُ وثارت فيهم الحماسة وقالوا‏:‏

‏{‏قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ‏}‏‏.‏

وكانت الملكة عاقلةً فنظرت في الأمر بعين الفطنة، ولم تغترّ بما أبداه رجالها من الحماسة وقالت لهم‏:‏ ان دخول املوك المدنَ والقرى فاتحين ليس من الأمور الهّينة، وليس أثره بالسّهل على أهلها‏.‏ ‏(‏وكان من عادات الفاتحين قبل الاسلام ان يستعبِدوا المغلوبين، ويذبحوا رجالهم ويستحييوا نساءهم ويفسدوا الحرث والنسل‏)‏‏.‏ وعرضتْ عليهم رأياً آخر وجدته أقربَ الى حلّ هذه الأزمة التي أتتها من حيثُ لم تحتسِب، ذلك ان تُرسلَ إلى سليمان بهدية تصانعه بها، وتطلب مودّته، ثم تنظر ماذا يرجع به رسُلُها الى سليمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ‏(‏36‏)‏ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏37‏)‏ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏38‏)‏ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ‏(‏39‏)‏ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

لا قِبل لهم بها‏:‏ لا طاقة لهم بمقاومتها‏.‏ صاغرون‏:‏ مهانون محتقرون‏.‏ العرش‏:‏ سرير الملك‏.‏ العِفريت من البشر‏:‏ الخبيث الماكر، ومن الشياطين‏:‏ المارد‏.‏ قال الذي عنده علمٌ من الكتاب‏:‏ رجل أعطاه الله علماً خاصا، وقوة روحية‏.‏ قبل ان يرتد اليك طرفُك‏:‏ قبل ان تطرف عينك، والمراد هو السرعة الفائقة‏.‏ ليبلوَني ربي‏:‏ ليختبرني ربي‏.‏

فلما جاء رسلُها الى سليمان بالهدية لم يَقبلْها وقال إنه ليس في حاجةٍ إلى اموالهم لما عنده من الثروة والملك، كما توعّدهم بأنه سيرسل الى بلادهم جنوداً لا طاقة لهم بهم، وان اقبة ذلك إخراجُهم من بلادهم أذِلَّةً صاغرين‏.‏

فلما جاء الخبر من الرسُل الى الملكة وعلمت عظَمةَ سليمان وقوة ملكه- أشفقت على قومها‏.‏ فأجمعت أمرها على الذهاب إليه في بعض أشراف قومها وتوجهت الى القدس بهدية عظيمة‏.‏ ولمّا علم سليمان باعتزام ملكه سبأ زيارته، شيّد لها صَرحاً عظيما، ومرَّدَ أرضَه بالزجاج‏:‏ وهذا شيء لا عهد لأهل اليمن بمثله‏.‏

ولما قربت من ديار سليمان أراد ان يفاجئها بشيء يَبْهَرُها، كأن ترى بعينها ما لم تر من قبلُ في الاحلام، وهو أن يأتيها بعرشِها الجميل ليكون جلوسُها عليه في ذلك الصرح‏.‏ فسأل جنوده عن قويّ يأتيه بذلك العرش‏:‏ فانتدب له عفريت من الجن وقال‏:‏

‏{‏أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ‏}‏

إني لقادر على ذلك وأمين على كل ما في العرش من جواهر وحلي‏.‏ وقال رجل ‏{‏عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ‏}‏ وكان الأمر كما قال‏.‏ فجاء به ووُضع في الصرح الذي هُيِّئ لاستقبالها‏.‏ فلما رأى سليمان عرش بلقيس أمامه قال‏:‏ الحمد لله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ هذا من فضلِ ربي ليختبرني أأشكر ام اكفر‏.‏‏.‏ ومن شكَر الله ففائدة الشكر تعود اليه، ومن جَحد ولم يشكر فان الله غنيّ عن العباد وعبادتهم، كريم بالإنعام عليهم وان لم يعبدوه‏.‏

اما الطريقة التي جيء بها بالعرض فشيءٌ لم يأت تفصيل له بخبر صحيح، وهو معجزة خارقة للعادة، كبقية المعجزات نسلّم بها تسليما‏.‏

وأهل القصص وبعض المفسرين يذكرون ان سليمان تزوّج منها وجاءه منها ولد، ويزعم ملوك الحبشة أنهم أبناء سليمان من الولد الذي ولدته من سليمان، لكن هذا زعمٌ منهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة ويعقوب‏:‏ اتمدونّي بنون واحدة مشددة‏.‏ الباقون‏:‏ اتمدونني بنونين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏41‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ‏(‏42‏)‏ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏43‏)‏ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

نكّروا لها عرشها‏:‏ غيِّروا فيه‏.‏ صدّها‏:‏ منعها‏.‏ الصرح‏:‏ كل بناء مرتفع‏.‏ حسبته لجّة‏:‏ ظننته ماء‏.‏ ممرَّد‏:‏ ذو سطح املس‏.‏ من قوارير‏:‏ من زجاج وتحته الماء‏.‏

وقال سليمان لجنده‏:‏ نكِّروا لها عرشها ببعض التغيير في مظاهره‏.‏ وسنرى هل تعرفه ام لا‏.‏ فلما جاءت ورأت العرش قِيل لها‏:‏ أهكذا عرشك‏؟‏ فقالت‏:‏ كأنه هو‏.‏ وقال سليمان وقومه‏:‏ ‏{‏وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ‏}‏ منقادين لله ولحكمه‏.‏ وهذا قول اكثر المفسرين، وبعضهم يجعل عبارة‏:‏ ‏{‏وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ‏}‏ من قول بلقيس ويكون معنى الكلام‏:‏ وأوتينا العِلم بكمال قدرة الله وصِدق نبوتك من قبلِ هذه المعجزة بما شاهدناه وبما سمعناه، وكنا منقادين لك من ذلك الحين‏.‏

ثم ذكر سبحانه ما منعها من إظهار ما ادّعت من الاسلام الى ذلك الحين فقال‏:‏

‏{‏وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ‏}‏

ولقد صرفها عن عبادة الله ما كانت تعبده من آلهة غير الله تعالى، فانها كانت تعبد الشمس، وكانت من قوم كافرين‏.‏

‏{‏قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ‏}‏

ولما أرادت دخول الصرح والوصولَ الى العرش رأت ماءً يتموّج، فيه انواع من حيوان البحر ودوابه‏.‏ فكشفت عن ساقيها لئلا تبتلّ أذيالها بالماء، كما هي عادة من يخوض الماء‏.‏ فقال لها سليمان‏:‏ إن ما تظنّينه ماءً ليس بالماء، بل هو صرح أملسُ مكوَّن من زجاج‏:‏ فراعها ذلك المنظر، وعلمت ان مُلكها لا يساوي شيئا بجوار ملكِ سليمان، فقالت‏:‏ ‏{‏قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 53‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ‏(‏47‏)‏ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏50‏)‏ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

فريقان‏:‏ طائفتان‏.‏ طائفة مؤمنة، واخرى كافرة‏.‏ يختصمون‏:‏ يتنازعون‏.‏ السيئة‏:‏ العقوبة‏.‏ الحسنة‏:‏ الرحمة‏.‏ اطّيرنا‏:‏ تشاءمنا‏.‏ طائركم‏:‏ ما يصيبكم من الخير والشر‏.‏ تفتنون‏:‏ تختبرون‏.‏ المدينة‏:‏ الحِجر، مداين صالح‏.‏ الرهط‏:‏ النفر من الثلاثة الى التسعة‏.‏ تقاسموا‏:‏ حلفوا‏.‏ لنبيتنّه‏:‏ نهجم عليه بغتة ليلا‏.‏ وليّه‏:‏ أقرب الناس اليه‏.‏ مهلك اهله‏.‏ أهلاك أهله‏.‏ دمرناهم‏:‏ أهلكناهم‏.‏ خاوية‏:‏ خالية‏.‏

ولقد بعثنا الى قوم ثمود أخاهم صالحاً، فقال لهم اعبدوا الله، فإذا هم طائفتان يختصمون‏:‏ جماعةُ تؤمن بالله، واخرى كافرة، هي الأكثرُ والأقوى‏.‏ فقال صالح لقومه‏:‏ لِمَ يستعجلون طلبَ العذاب قبل الرحمة‏؟‏ هلاّ تستغفرون ربكم لعله يرحمكم‏!‏ قالوا‏:‏ إننا تشاءمنا بك وبمن اتبعك‏.‏ ‏(‏وأصلُ التطيرُّ‏:‏ ان العرب كانوا اذا خرجوا مسافرين فمرّوا بطائر وزجروه فان طار الى جهة اليمين تيمّنوا به، وان مرّ الى جهة اليسار تشاءوموا به‏)‏‏.‏

قال لهم صالح‏:‏ ان سببَ تشاؤمكم هو كفركم بالله، فقد اراد الله ان يختبركم ليعرف من منكم سيؤمن، ومن يكفر‏.‏

وكان في مدينة صالح تسعةُ رجال من المفسِدين، طواغيتُ لا يسلم من شرهم احد، تحالفوا على مباغتته ليلاً وقتله هو واهله، وان يقولوا لوليّ دمه‏:‏ لا علم لنا بمن قتلهم‏.‏ ومكَر هؤلاء مكرهم، ودبّر الله ردّ كيدهم في نحرهم وهم لا يشعرون، فكان عاقبة مكرهم ان دمّرهم الله أجمعين‏.‏ وتلك بيوتُهم خالية‏.‏ والمشركون من مكة يمرّون بهذه البيوت المدمرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وخلف‏:‏ لتبيّتنّه واهله ثم لتقولن، بالتاء، وقرأ مجاهد‏:‏ «ليبيتنه» بالياء، والباقون‏:‏ لنبيتنه‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ بالنون‏.‏ وقرأ عاصم‏:‏ مهلك اهله، بكسر اللام، وقرأ ابو بكر‏:‏ مهلك بفتح الميم واللام‏.‏ والباقون‏:‏ مهلك بضم الميم وفتح اللام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 58‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏54‏)‏ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏55‏)‏ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏56‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏57‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

ذُكرت قصة لوط في عدد من السور‏:‏ في سورة الأعراف وهود والحِجر والشعراء والنمل هنا، والتحريم، وذلك باختلافٍ يسير وبعضها يكمل بعضا‏.‏

وخلاصة ما جاء هنا ان لوطا قال لقومه‏:‏ ويلكم، أتأتون الفاحشة بالذكور وبعضكم ينظر الى بعض، وتأتون الذكور وتتركون النساء‏!‏‏!‏ إنكم قوم جاهلون بنتائج ما سيحدُث لكم من هلاكٍ ودمار وعذاب في الآخرة‏.‏ فما كان جواب قومه الا ان قال بعضهم لبعض‏:‏ اطردوا لوطاً ومن آمن معه من بلادكم، إنهم اناس يتطهرون‏.‏ فأنجاه الله وأهلَه والمؤمنين به الا امرأته التي كانت من الكافرين، ثم دمر بلادَهم، وامطر على أولئك المفسدين مطر عذابٍ ونقمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 64‏]‏

‏{‏قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏ أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ‏(‏60‏)‏ أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏ أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏ أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏63‏)‏ أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

عباده الذين اصطفى‏:‏ الأنبياء عليهم السلام‏:‏ حدائق‏:‏ بساتين‏.‏ ذات بهجة‏:‏ ذات منظر حسن يبتهج به من يراه‏:‏ يَعدلِون‏:‏ يميلون عن الحق وينحرفون حيث يجعلون لله عديلا‏.‏ قرارا‏:‏ مستقرا‏.‏ خلالها‏:‏ بينها‏.‏ الرواسي‏:‏ الجبال‏.‏ حاجزا‏:‏ فاصلا بينهما‏.‏ الرياح بُشرا‏:‏ مبشرة بالرحمة، أي المطر‏.‏

قل يا محمد‏:‏ الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اختارهم لرسالته، وجَمْعِ المتقين المصلحين واسأل معارِضيك‏:‏ أي الآلهة أفضل، الله ام الاصنامُ التي يعبدونها وهي لا تضر ولا تنفع‏؟‏‏.‏ اسألهم أيها الرسول‏:‏ من خَلَق السمواتِ والأرض على ما يهما من ابداع وحكمة، وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبت به بساتينَ جميلة تسرّ الناظرين، ما كنتم تستطيعون ان تنبتوا شجرها‏؟‏ ولكن الكفار يعدلِون عن الحق والإيمان، ويميلون الى الباطل والشرك‏.‏

اسألهم ايها الرسول‏:‏ من الذي جعلَ الأرضَ للاستقرار عليها، وخلق وسطها انهارا، وخلق عليها جبالا تمنعها من الميل، وجعل بين الماء العذبِ والماء المالح فيها فاصلاً يمنع امتزاج احدهما بالآخرة، هل هناك إله مع الله‏؟‏ بل اكثرهم لا يعلمون‏.‏

واسألهم ايها الرسول‏:‏ من يجيب المضطرَّ اذا دعاه ويكشف عنه السوء، ويجعلكم خلفاء في الأرض تتصرفون فيها، هل هناك اله مع الله‏؟‏ ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

اسألهم أيها الرسول‏:‏ من يهديكم في ظلُمات البرّ والبحر وأنتم لا تدرون اين تذهبون، ومن يرسل الرياح مبشِّرة بمطر هو رحمة من الله‏؟‏ أهناك إله مع الله تعالى يصنع ذلك ‏{‏وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

واسألهم ايها الرسول‏:‏ من ينشئ الخلق ابتداءً ثم يوجده بعد فنائه كما كان، ومن يرزقكم من السماء والارض، هل هناك إله مع الله يفعل ذلك‏؟‏ قل ايها الرسول‏:‏ ‏{‏هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الجمهور‏:‏ قليلاً ما تذكرون بالتاء‏.‏ وقرأ ابن عمرو وهشام وروح‏:‏ قليلا ما يذكرون‏.‏ بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 75‏]‏

‏{‏قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏65‏)‏ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ‏(‏66‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ‏(‏67‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏69‏)‏ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏71‏)‏ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏74‏)‏ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏75‏)‏‏}‏

أيان يُبعثون‏:‏ متى يبعثون للحساب والجزاء‏.‏ ادّراك‏:‏ تدراك تلاحق‏.‏ في شكل‏:‏ في حيرة‏.‏ عَمُون‏:‏ عميان‏.‏ أساطير‏:‏ خرافات‏.‏ رَدِف لكم‏:‏ لحق بكم‏.‏ تكنّ‏:‏ تخفي‏.‏

قل ايها الرسول للناس‏:‏ لا يعلم جميعُ من في السموات والارض الغيبَ غير الله وحده، ولا يعرفون متى يبعثون من قبورهم يوم القيامة‏.‏

ثم اكّد الله جهلهم بهذا اليوم فقال‏:‏

‏{‏بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة‏}‏

بل تلاحقَ عليمُهم في الآخرة من جهل الى شك وحيرة، بل هم في ضلالة وجهلٍ عظيم من أمرها‏.‏

وقال الذين كفروا‏:‏ أإذا استحالت اجسادُنا الى تراب نحن وآباؤنا، هل نخرج من قبورنا لحياة اخرى‏؟‏ لقد وعدنا الرسلُ هذا ووعدا آباءنا قبلنا، لكنّ هذا خرافات القدماء يتناقلونها‏.‏

ثم أمر رسوله الكريم ان يرشدهم الى وجه الصواب مع التهديد والتوعيد فقال‏:‏

‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين‏}‏

تقدم مثل هذه الآية في آل عمران 137‏.‏

ثم سلّى رسوله عليه الصلاة والسلام على ما يناله من عماهم عن السبيل القويم الذي يدعو اليه فقال‏:‏

‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏‏.‏ وتقدمت هذه الآية في النحل 127‏.‏

ويقول الكافرون‏:‏ متى يتم الوعد المنذِرُ بحلول العذاب ان كنتم صادقين‏؟‏‏.‏

‏{‏قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏

قل ايها الرسول‏:‏ عسى ان يكون قد لحق بكم وقرُب منكم بعض ما تستعجلونه من العذاب‏.‏

ثم بين الله السبب في ترك تعجيل العذاب فقال‏:‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏

ان ربك لهو المنعِم المتفضل على الناس جميعاً بتأخير عقوبتهم ليتوبوا، ولكن اكثر الناس لا يشكرونه على ذلك‏.‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏

ان الله يعلم كل ما يفكر فيه الانسان ويكتمه في صدره، وكلّ ما يعلنه من الأقوال والأفعال‏.‏

ثم بين ان كل ما يحصل في هذا الوجود محفوظٌ في كتاب واضح دقيقٍ لا يغادر كبيرةً ولا صغيرة الا أحصاها‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الجمهور‏:‏ بل ادّراك بتشديد الدال المفتوحة بعدها الف‏.‏ وقرأ ابن كثير وابو عمرو ابو جعفرن‏:‏ بل أدْرك باسكان الدال وبدون الف بعدها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 85‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏76‏)‏ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ‏(‏79‏)‏ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏80‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ‏(‏82‏)‏ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏83‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

وقع‏:‏ حدث وحصل‏.‏ القول‏:‏ مجيء الساعة‏.‏ فوجا‏:‏ جماعة‏.‏ يُوزَعون‏:‏ يمنعون ويجمعون ويزجرون‏.‏

ان هذا الكتاب الذي أُنزل على محمد يبين لبني إسرائيلَ حقيقةَ ما جاء في التوراة من عقائدَ وأحكام وقصص، ويردّهم الى الصواب فيما اختلفوا فيه‏.‏

وهو مصدرُ هداية للمؤمنين، ورحمة لمن صدَّق به وعمل بما فيه، يرحمهم به الله من الشك والقلق والحَيرة‏.‏

وبعد ان ذكر فضله وشرفه أتبعه دليلَ عدله فقال‏:‏

‏{‏إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ العزيز العليم‏}‏

فهو يفصِل بين الناس جميعاً يوم القيامة بعدله، وهو العزيز الذي لا يُرَدُّ قضاؤه، العليم بأفعال العباد واقوالهم‏.‏

ثم امر رسوله الكريم ان يتوكل عليه وحده في جميع اموره، فانه كافيه كلَّ ما يهمه، وناصرُهُ على اعدائه، لأنه على الحق الواضح‏:‏ ‏{‏فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين‏}‏‏.‏

ثم يمضي في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتأسيته على جموح القوم ولجاجهم في العناد واصرارهم على الكفر فيقول

‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ‏}‏‏.‏

انك ايها الرسول لا تستطيع هدايتهم، لأنهم كالموتى في عدم الوعي، وكالصم في فقدان السمع فليسوا مستعدّين لسماع دعوتك، فلا أمل في استجابتهم للدعوة، ولا في قبولهم للحق‏.‏

ثم اكّد ما سلف وقطع اطماعه في ايمانهم فقال‏:‏

‏{‏وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ‏}‏

ولا تستطيع ان تهديَ الى الحق من عميتْ ابصارُهم وبصائرهم، ولا يمكنك ان تُسمع الا من يقبل الايمان بآياتنا فانهم هم الذين يسمعون منك ويؤمنون برسالتك‏.‏

وبعد ان ذكر الله ما يدل على كمال علمه وقدرته، وأبان إنكان البعث والحشر والنشر، ثم فصّل القولَ في إعجاز القرآن الكريم، ونبه بذلك الى إثبات نبوة محمد لله- ذَكَرَ بعض أشراط الساعة، وبعض مشاهدها، ومقدِّمات القيامة وما يحدث من الاهوال حين قيامها، فذكر خروج دابةٍ تكلِّم الناسَ وتبين للذين لا يؤمنون بآيات ربهم أنهم على الباطل‏.‏

وانه حينئذ ينفخ في الصور فيفزع من في السموات والأرض الا من شاء الله فيثبتهم ويطمئنهم، وكل المخلوقات يأتون الى ربهم صاغرين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير‏:‏ ولا يَسمع الصمُّ بفتح الياء ورفع الصم‏.‏ والباقون‏:‏ ولا تُسمع الصمَّ، بضم تاءِ تسمع ونصب الصم‏.‏ وقرأ حمزة وحده‏:‏ وما انت تهدي العُمْي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 93‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏86‏)‏ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ‏(‏87‏)‏ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ‏(‏88‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ‏(‏89‏)‏ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏91‏)‏ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏92‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

الم يروا‏:‏ الم يعلموا‏.‏ ليسكنوا فيه‏:‏ ليستريحوا فيه‏.‏ مبصرا‏:‏ ليبصروا فيه ويسعوا وراء معاشهم‏.‏ الصُّور‏:‏ البوق‏.‏ داخرين‏:‏ أذلاء صاغرين‏.‏ جامدة‏:‏ ثابتة في اماكنها‏.‏ الحسنة‏:‏ كل عمل صالح نافع‏.‏ السّيئة‏:‏ كل عمل مخالف للدين والنظام‏.‏ فكُبَّتْ وجوهُهم‏:‏ القيت منكوسة‏.‏ البلدة‏:‏ مكة‏.‏

الم يعلموا ويشاهدوا بأنسهم انا جعلنا الليل للراحة والهدوء، والنهار واضحا للسعي وراء معاشهم وتدبير امورهم، ان في ذلك لآيات دالةً على وجود الله ورحمته للمؤمنين‏.‏

ويوم ينفخ اسرافيل في البوق ويدعى الناس للحساب يَفْزَعُ الناس ويخافون من هول ذلك اليوم الا من يشاء الله من المؤمنين فيطمئنهم ويجعلهم في امان‏.‏

في ذلك اليوم ترى الجبال فتحسبها ثابتة، مع انها تسير بسرعة هائلة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏، ذلك من صنع الله الذي اتقن كل شيء وابدعه، انه سبحانه كامل العلم بما يتصل الناس‏.‏

ثم بين حال السعداء والاشقياء يومئذ فقال‏:‏

‏{‏مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏

الذي يعملون في الدنيا الأعمالَ الصالحة آمنون في ذلك اليوم، ولهم خير مما قدموا، أما الذين كفروا وجحدوا واساؤوا التصرف فانهم يكبّون على وجوههم في النار، ويقال لهم هذا جزاء ما كنتم تعملون‏.‏

ثم تأتي خاتمة السورة بتوجيهات قدسيّة من الله لرسوله الكريمِ والمؤمنين، وبتنبيه المشركين الى ما هم فيه من الغفلة وسوءِ الحال، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام‏:‏ انما أُمِرتُ أن أعبد ربَّ هذه البلدة «مكة» الذي حرّمها الله ‏(‏حتى ينبه المشركين بأنهم على خطأ في عبادة الاصنام، وتركِ عبادة رب البيت الذي له ملك كل شيء‏)‏ وأُمرت ان اكون من المسلمين له المخلصين في عبادتي وديني، وان اتلو هذا القرآن على الناس، فمن اهتدى فإنما يهتدي لخير نفسه، ومن ضلّ فلست عليه حسيباً وانما أنا منذِرٌ للناس‏.‏

وقل يا محمد‏:‏ الحمد لله على ما افاض عليّ من نعم، وسيريكم ربكم آياته فيكشف لكم في الدنيا عن آثار قدرته، وفي الآخرة عن صدق ما اخبركم به فتعرفونها حق المعرفة، وما هو بغافل عما يعمل المشركون‏.‏

والحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين‏.‏

سورة القصص

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏4‏)‏ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ‏(‏5‏)‏ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

نتلو عليك‏:‏ ننزل عليك، نقصّ عليك‏.‏ من نبأ‏:‏ من خبرعجيب‏.‏ شِيعا‏:‏ فرقاً مختلفة‏.‏ نمنّ‏:‏ نتفضل‏.‏ نمكّن لهم‏:‏ نقويهم ونجعلهم الحاكمين‏.‏ هامان‏:‏ وزير فرعون‏.‏

طاسين ميم، هكذا تقرأ‏.‏‏.‏ وهي حروف صوتيه سبقت لبيان ان القرآن المعجز يتألّف من هذه الحروف التي يتألف منها حديثكم، ولتنبيه السامعين‏.‏ والمعنى‏:‏ ان هذه الآياتِ التي نوحيها إليك أيها الرسول آياتُ القرآن الواضح، وفيها نقصّ عليك بعض أخبار موسى وفرعون بالحقّ ليعتبر المؤمنون بما فيه‏.‏ ان فرعون تعاظَمَ في نفسه، وجاوز الحدّ في ظلمه، واستكبر في مصر، وفرّق أهلها فجعلهم فِرقاً وطوائف، يصطفي بعضهم ويسخّر البعض الآخر‏.‏ لقد كان يستضعف بني إسرائيل، فيذبح الذكور من أولادهم ويستبقي الاناث، ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين‏}‏‏.‏

وأراد الله ان يتفضّل على الذين استضعّفهم فرعونُ في الأرضِ، وان يمكّن لهم سلطانَهم، ويثبتَ لفرعون ووزيره هامان وجنودهما ما كانوا يخشونه من ذَهاب مُلكهم على يد مولود من بني اسرائيل‏.‏

قراءات

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ويرى فرعونَ وهامان‏:‏ بالياء وفرعون مرفوع وهامان كذلك‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ويُري فرعونَ وهامانَ بضم النون، ونصب فرعون وهامان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 13‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏7‏)‏ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ‏(‏8‏)‏ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏10‏)‏ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ‏(‏12‏)‏ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

وأوحينا الى أم موسى‏:‏ ألهمناها‏.‏ اليمّ‏:‏ البحر والمراد هنا نهر النيل‏.‏ حَزنا‏:‏ الحزن بفتح الحاء والزاي، والحزن بضم الحاء وسكون الزاي‏.‏‏.‏‏.‏ الغم ولمكروه من الشدة‏.‏ قرة عين‏:‏ فرح وسرور لنا‏.‏ فراغا‏:‏ خاليا من القعل‏.‏ وان كادت لتبدي به‏:‏ كادت تذهب الى آل فرعون وتعرّف نفسها بأنها أمه‏.‏ ولولا ان ربطنا على قلبها‏:‏ لولا ان ثبتناها وجعلناها تصبر‏.‏ قُصّيه‏:‏ اقتفي أثره وتتبعي خبره‏.‏ فبصرت به عن جُنب‏:‏ فأبصرته عن بعد وكأنها لا تريد ان تتبع أثره‏.‏ وهم لا يشعرون‏:‏ لا يدرون أنها اخته‏.‏ حرّمنا عليه المراضع‏:‏ جعلناه لا يقبل ان يرضع من غير امه‏.‏ يكفلونه‏:‏ يضمنون رضاعته وتربيته‏.‏

ولما وُلد موسى في أثناء تلك المحنة ألهمنا أمه أن تُرضعه وتخفيَه ما استطاعت الى ذلك سبيلا، وقلنا لها‏:‏ إن خِفتِ عليه فألقيه في النيل، في صندوق، ولا تخافي عليه ولا تحزني، فنحن سنردّه اليك، وسيكون من الانبياء المرسلين‏.‏

فالتقطه آل فرعون وجاؤوا به الى سيّدتهم، امرأة فرعون، فأحبّته تلك المرأة وقالت لزوجها‏:‏ لا تذبحْه، بل اتركه ليكون لنا مصدر سرور وفرح‏.‏ كانوا لا يدرون أنه سيكون لهم عدواً وسببَ حزنٍ كبير، بإبطال دينهم وزوال مُلكهم على يديه‏.‏‏.‏ ان فرعون ووزيره هامان وجنودهما كانوا مجرمين‏.‏

‏{‏وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بما قدّر الله في شأنه‏.‏

وصابح فؤادُ أم موسى فارغاً من العقلِ خوفاً على ابنها لوقوعه في يد فرعون، حتى إنها كادت تذهبُ الى آل فرعون وتعرِّف نفسَها بانها امه، لولا ان ثبّتها الله بالصبر‏.‏

وقالت لأخته‏:‏ اقتفي أثر أخيك، وتتبعي خبره عن بعدٍ وهم لا يشعرون بك‏.‏ ولم يقبل موسى ان يرضع من أي امرأة، فقال اخته لآل فرعون‏:‏ هل ادّلكم على امرأة ترضعه وتقوم بأمره وتنصح في خدمته‏؟‏ ووافقوا‏.‏ وهكذا ارجعناه الى امه لتطمئنّ الى وعدِنا ويذهب عنها الحزن، ولتعلم ان وعد الله حق، وانه سيكون من المرسَلين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ حُزنا بضم الحاء وسكون الزاي‏.‏ والباقون‏:‏ وحَزنا‏:‏ بفتح الحاء والزاي وهما لغتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 19‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏14‏)‏ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏16‏)‏ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ‏(‏17‏)‏ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

بلغ أشدّه‏:‏ استكمل قوته وكفاية نموه‏.‏ استوى‏:‏ اعتدل وكمل عقله‏.‏ حُكما‏:‏ حكمة‏.‏ المدينة‏:‏ مصر‏.‏ على حين غفلة‏:‏ في وقت لا يتوقعون دخوله، من شيعته‏:‏ من بني قومه‏.‏ من عدوه‏:‏ من الاقباط‏.‏ فاستغاثه‏:‏ طلب العون منه‏.‏ فوكزه‏:‏ ضربه بجمع يده‏.‏ فقى عليه‏:‏ فقتله‏.‏ بما أنعمتَ عليّ‏:‏ اقسم بنعمك علي‏.‏ ظهيرا‏:‏ معينا‏.‏ يترقب‏:‏ ينتظر ما يناله من اذى‏.‏ استنصره‏:‏ طلب نصره‏.‏ يستصرخه‏:‏ يطلب الاغاثة بصوت مرتفع‏.‏ لغويٌّ مبين‏:‏ ضال كبير‏.‏ ان يبطش‏:‏ ان يسطو عليه بعنف‏.‏

فلما بلغ موسى رشده واكتمل نموه، واستوى جمسا وعقلاً آتيناه حكمة ومعرفة وعلما، وكذلك نكافئ كل محسن‏.‏

ودخل موسى المدينةَ على حين غفلةٍ في وقت ليس من المعتاد الدخولُ فيه، فوجد رجلّين يقتتلان‏:‏ أحدهما من بني دينه، والآخر من الاقباط‏.‏ وحين استغاث به الذي من جماعته، ضرب موسى القبطيَّ بجُمعِ يده فقى عليه من غير قصد، فقال‏:‏ هذا من عملِ الشيطان، إنه عدوٌّ مضلٌّ ظاهر العداوة‏.‏

ثم قال موسى متضرعا الى الله نادما على ما فعل‏:‏ ربّ اني ظلمتُ نفسي بعملي هذا فاغفْر لي‏.‏ فغفر الله له، إنه غفور رحيم‏.‏

قال موسى‏:‏ يا رب، بحقّ إنعامك عليّ بالحكمة والعلم وَفِّقْني للخير والصواب، ولن أكون بعدَ هذا معيناً للمجرمين‏.‏ وأصبح في مصر خائفاً يترصد وقوع القصاص به‏.‏ فإذا صاحبُه الذي استنجد به بالأمس يستغيث به ثانية، فقال له موسى‏:‏ إنك شرير ضالّ‏.‏ ودفعته الغيرة عليه حتى هم ان يبطِش به فقال له الرجل‏:‏ يا موسى، اتريد ان تقتلني كما قتلتَ نفساً بالأمس‏؟‏ أتريد ان تكون طاغية في الأرض من الجبابرة السفاكين لا الخيّرين‏!‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 28‏]‏

‏{‏وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏20‏)‏ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏22‏)‏ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ‏(‏23‏)‏ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ‏(‏24‏)‏ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ‏(‏26‏)‏ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

أقصى المدينة‏:‏ من ابعد مكان فيها‏.‏ يسعى‏:‏ يسرع‏.‏ الملأ‏:‏ أشراف القوم ووجوههم‏.‏ يأتمرون بك‏:‏ يتشاورون في امرك‏.‏ يترقب‏:‏ يلتفت يمنة ويسرة‏.‏ توجَّه تلقاء مدين‏:‏ ذهب الى جهة مدينة مدين، وهي بأرض الحجاز محاذية للبحر الاحمر‏.‏ سواء السبيل‏:‏ أوسط الطرق وأسهلها‏.‏ ولما ورد ماءَ مدين‏:‏ لما وصل مكان الماء في مدين‏.‏ تذودان‏:‏ تمنعان غنمهما عن الماء خوفاً من السقاة الأقوياء‏.‏ أُمة‏:‏ جماعة‏.‏ ما خطبكما‏:‏ ما شأنكما‏.‏ حتى يصدر الرِعاء‏:‏ حتى يسقي الرعيان وينصرفون‏.‏ الرعاء والرعاة والرعيان بمعنى واحد‏.‏ تولّى الى الظل‏:‏ ذهب الى الظل‏.‏ الاستحياء‏:‏ شدة الحياء‏.‏ ليجزيك‏:‏ ليعطيك أجرَ ما سقيت لنا‏.‏ وقصّ عليه القصص‏:‏ أخبره بخبره وقصته‏.‏ أنكحك‏:‏ أزوجّك‏.‏ على ان تأجُرني ثماني حجج‏:‏ على ان تكون عندي أجيراُ مدة ثمان سنين‏.‏ فان أتممت عشرا فمن عندك‏.‏ فان زدت وبقيت عندي مدة عشر سنين فهذا من فضلك‏.‏ وما اريد ان اشقّ عليك‏:‏ لا اريد ان ادخل عليك مشقة‏.‏ ايما الأجَلين قضيت‏:‏ اي أجل قضيته ثماني سنين او عشراً‏.‏ فلا عدوان عليّ‏:‏ لا حرج علي‏.‏ والله على ما نقول وكيل‏:‏ شهيد‏.‏

وجاء رجلٌ من شِعيته من أقصى المدينة مسرعاً، فقال‏:‏ يا موسى، ان زعماء القوم يتشاورون في أمرك ليقتلوك‏.‏ اخرج من مصر، إني لك من الناصحين‏.‏ فخرج منها موسى وهو خائف يترقب أن يلحقه أحدٌ منهم، ضارعا الى الله ان ينجيه من الظالمين‏.‏ ولما توجه الى «مدين» لعله يجد فيها مأمناً سأل ربه ان يهديه طريقَ الخير والنجاة‏.‏ وهناك في مَدْيَنَ وجد ماءً، وكان عليه جماعة كبيرة يسقون مواشيهم‏.‏ ووجد امرأتين في ناحيةٍ تمنعان اغنامهما ان ترد الماء، فسألهما عن شأنهما، ولماذا لا ترِدان الماء‏؟‏ قالتا‏:‏ لا نستطيع ان نسقي حتى ينصرف الرعاة، وأبونا شيخ كبير فتولى موسى سقي غنمهما ثم انصرف الى الظل، وسأل ربه ان يسوق اليه رزقاً من خيره لأنه لا يملك شيئا‏.‏

وبعد برهة جاءت إحدى الفتاتين تسير في حياء، وقال له‏:‏ إن أبي يدعوك ليعطيَك أجْرَ ما سقيتَ لنا‏.‏ فلما ذهب معها الى ابيها وقص عليه قصة خروجه من مصر، قال له الشيخ‏:‏ لا تخفْ، نجوتَ الآن من القوم الظالمين‏.‏

قالت احدى الفتاتين، يا أبتِ، استأجرْه ليكون راعياً لغنمنا، إنه خير من تستأجر، فهو قوي وأمين‏.‏ فعرض عليه أبوهما ان يزوّجه واحدة من ابنتيه على ان يؤجِّره نفسَه مدةَ ثماني سنين، فان أتمها عشراً كان ذلك من فضله‏.‏ فقبل موسى الشرط، وعاهده على الوفاء به، وقال‏:‏ أي مدة من المدّتين أقضيها في العمل أكون وفيتك عهدك فلا اطالَب بزيادة عليها، والله شاهد على ما نقول‏.‏

لم يُذكر اسم الشيخ الكبير هذا في القرآن، ويقال إنه ابن أخِ شُعيب النبي، اذ ان موسى لم يدرك النبي شعيبا على الصحيح‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو عمرو وابن عامر‏:‏ حتى يصدرُ ارعاء بفتح الياء وضم الدال‏.‏ والباقون‏:‏ حتى يصدر بضم الياء وكسر الدال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏29‏)‏ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏30‏)‏ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ ‏(‏31‏)‏ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قضى الأجل‏:‏ اتم المدةَ المتفق عليها‏.‏ آنس‏:‏ أبصر‏.‏ جذوة‏:‏ جمرة ملتهبة‏.‏ تصطلون‏:‏ تستدفئون‏.‏ البقعة المباركة‏:‏ المكان الذي بارك الله فيه‏.‏ جانّ‏:‏ حية سريعة الحركة‏.‏ ولم يعقّب‏:‏ لم يرجع‏.‏ اسلك يدَك‏:‏ أدخِلها‏.‏ الرهب‏:‏ المخافة، الخوف‏.‏

فلما أتم موسى المدة التي اتفق عليها مع عمه حنّ الى وطنه، فاستأذن بالرحيل وسار بزوجته وما معه من الغنم التي حصل عليها من صهره عائدا الى مصر‏.‏ وكان الجو باردا، وقد أظلم الليل، فضلّ موسى الطريق‏.‏ وبينما هو كذلك رأى ناراً من ناحية جبل الطور، فقال لزوجته‏:‏ امكثي، اني رأيت ناراً، لعلّي آتيك منها بخبر عن الطريق، او آتيك بشيء من النار تستدفئين بها‏.‏

فلما وصل الى المكان الذي رأى فيه النار، سمع مناديا من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة يقول له‏:‏ يا موسى، إني انا الله ربّ العالمين‏.‏‏.‏ ألقِ عصاك‏.‏ فألقاها موسى‏.‏ فلما رآها تهتز كأنها حيّة هرب منها ولم يرجع اليها‏.‏ فناداه ربّه‏:‏ أقدم يا موسى ولا تخفْ، إنك من الآمنين‏.‏ أدخِل يدك في جيبك تخرج بيضاءَ من غير مرض ولا عيب، ‏(‏وكان موسى اسمر اللون‏)‏، هاتان معجزتان من الله، تواجه بهما فرعونَ وقومه‏.‏

ولما اعترى موسى الخوفُ من العصا وأخذته الدهشةُ من شعاعِ يده- أمره ربه ان يضع يدَه على صدره ليزول ما به من الخوف فقال‏:‏ ‏{‏واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كل خائف اذا وضع يده على صدره زال خوفه‏.‏

قراءات‏:‏

جذوة‏:‏ مثلثة الجيم وقرئ بها جميعا‏.‏ وقرأ حفص‏:‏ من الرَهْب بفتح الراء وسكون الهاء‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو‏:‏ من الرَهَب بفتح الراء والهاء‏.‏ وقرأ حفص‏:‏ من الرَّهْب بفتح الراء وسكون الهاء‏.‏ والباقون‏:‏ من الرُهْب بضم الراء وسكون الهاء‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ فذانّك بتشديد النون، والباقون‏:‏ فذانِك‏:‏ بكسر النون دون تشديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 37‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ‏(‏33‏)‏ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ‏(‏34‏)‏ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ‏(‏36‏)‏ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

رداءا‏:‏ معينا‏.‏ يصدقني‏:‏ يوضح ما أقوله، ويجادل عني المشركين‏.‏ سنشدّ عضُدك‏:‏ سنقوّيك ونعينك بأخيك‏.‏ ونجعل لكما سلطانا‏:‏ قوة وغلبة‏.‏ مفترى‏:‏ مختلّق‏.‏ ومن تكون له عاقبة الدار‏:‏ ومن الذي يفوز‏.‏

قال موسى‏:‏ يا رب لقد قتلتُ من قوم فرعونَ نفساً، فأخاف ان يقتصّوا مني‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إن أخي هارون ألإصحُ مني لساناً فأرسلْه معي معينا يُصدِّقني بحجتي ويجادل عني، لأأني أخاف ان يكذّبوني‏.‏ هذا كما أن لساني لا يطاوعني عند المجادلة‏.‏ قال الله‏:‏ سنُعينك ونقوّيك بأخيك هارون، ونجعل لكما قوةً وحجة دافعة فلا يصلون إليكما‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ اذهبا بآياتنا اليهم، فأنتما ومن اتبعكما الغالبون‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع‏:‏ رِداء بكسر الراء وفتح الدال بغير همز‏.‏ والباقون‏:‏ رداءا بكسر الراء وسكون الدال بعدها همزة‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة‏:‏ يصدقُني‏:‏ بضم القاف‏.‏ والباقون‏:‏ يصدقني بسكون القاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 43‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏38‏)‏ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ‏(‏39‏)‏ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ‏(‏42‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

هامان‏:‏ وزير فرعون‏.‏ صرحا‏:‏ قصرا عاليا‏.‏ اطّلع‏:‏ أصعد واتطلع من فوقه‏.‏ فنبذناهم‏:‏ طرحناهم‏.‏ يدعون الى النار‏:‏ يدعون الى الكفر الموجب الى النار‏.‏ لعنة‏:‏ طرداً من الرحمة‏.‏ من المقبوحين‏:‏ المخزيين المهلكين‏.‏ القرون الأولى‏:‏ قوم نوح وهود وصالح‏.‏ بصائر‏:‏ أنوارا تهدي قلوبهم‏.‏

وقال فرعون عندما عجز عن محاجّة موسى‏:‏ يا أيها القوم، ما علمت لكم إلهاً غيري كما يدّعي موسى، فاعملْ يا هامان لي بناءً عالياً أصعد وأرى اله موسى ‏{‏وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين‏}‏‏.‏

واستكبر فرعون وجنودُه في أرض مصر‏.‏‏.‏‏.‏ بغير الحق، وحسِبوا أنهم لا يُرْجَعون الينا حتى يلاقوا جزاءهم‏.‏ فأخذْنا فرعونَ وجنوده فألقيناهم في البحر حين تعقبوا موسى ومن معه حتى يمنعوهم من الخروج من مصر‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ فانظر يا محمد كيف كانت عاقبة الظالمين‏.‏

وجعلناهم دعاةً يدعُون إلى الكفر الذي يؤدي الى النار ‏{‏وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ وجعلنا اللعنة تتبعهم في هذه الدنيا، وهم يوم القيامة من المهلكين‏.‏

ولقد أنزلْنا التوراةَ على موسى بعد ما أهلكنا الأممَ التي سبقتْهم من الكافرين نوراً للناس ينصرون به الحق، وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير‏:‏ قال موسى، والباقون‏:‏ وقال موسى بالواو‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ ومن يكون له عاقبة الدار بالياء، والباقون‏:‏ ومن تكون بالتاء‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي‏:‏ لا يَرجِعون بفتح الياء وكسر الجيم، والباقون‏:‏ لا يُرجَعون بضم الياء وفتح الجيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 51‏]‏

‏{‏وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏44‏)‏ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏45‏)‏ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏49‏)‏ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

بجانب الغربي‏:‏ هو جبل الطور في سيناء‏.‏ قضينا‏:‏ عهِدنا اليه وكلفناه أمرنا ونهينا‏.‏ فتطاول عليهم العمُر‏:‏ طال عليهم الأمد الذي بينهم وبين القرون الماضية‏.‏ ثاويا‏:‏ مقيما‏.‏ وصّلنا لهم القولَ‏:‏ انزلنا متواصلا بعضه اثر بعض‏.‏

وما كنتَ يا محمد حاضراً بجانب الوادي الغربي الذي وقع فيه الميقاتُ وأعطى الله فيه ألواحَ التوراة إلى موسى حين عهد إليه امرَ النبوة، فكيف يكذّب قومُك برسالتك وانت تتلو عليهم انباء السابقين‏!‏‏؟‏‏.‏

لقد كان ذلك منذ قرونٍ طويلةِ انقطعت فيها الرسالاتُ وطال الزمن فأتينا بك لقومك لتنذرَهم برسالتك، وما كنتَ مقيماً في «مدين» حتى تخبرَ أهلَ مكة بأنبائهم، ولكنّا أرسلناك وأخبرناك بقصصهم واخبارهم‏.‏

ولم تكن ايها الرسول حاضراً في جانب الطور حين نادى الهُ موسى واصطفاه لرسالته، ولكن الله أعلمَكَ بهذا القرآنِ رحمةً منه بك وبأمتك، لتبلّغه قوماً لم يأتهم رسول من قبلك، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏ وحتى لا يقول قومك حين تصيبهم كارثةٌ بسبب كفرهم‏:‏ يا ربّ، إنك لم ترسلْ إلينا رسولاً يبلّغنا فنتبعه ‏{‏وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ فأزحْنا العذرَ وبعثناك ايها الرسول اليهم‏.‏

فلما جاء محمد بالحق قالوا تمرداً وعنادا‏:‏ هلاّ أوتيَ مثلَ ما أوتيَ موسى من المعجزات الحسيّة حتى نؤمن به‏!‏ ويلهم، ألم يكفُروا بموسى كما كفروا بك‏!‏ وقالوا إنما انتما ساحران ينصر أحدُكما الآخر ويعاونه‏.‏

ثم امر رسوله ان يتحدّى قومه أن يأتوا بكتابٍ أهدى من القرآن والتوراة للبشرَ وأصلحَ لحالهم فقال‏:‏

‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

ثم توعّدهم لأنهم لم يستطيعوا ان يأتوا بالكتاب فقال‏:‏

‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ‏}‏

ومن أضلُّ ممن اتبعَ هواه بغيرِ هدى من الله‏!‏ ان الله لا يهدي الذين يظلمون أنفسهَم بالتمادي في اتباع الهوى‏.‏

قراءات

قرأ اهل الكوفة‏:‏ سِحران بغير الف يعني القرآن والتوراة‏.‏ الباقون‏:‏ ساحران‏:‏ يعني موسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 55‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ‏(‏53‏)‏ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏54‏)‏ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

مسلمين‏:‏ منقادين لله‏.‏ يدرأون‏:‏ يدفعون‏:‏ اللغو‏:‏ ما لا فائدة فيه‏.‏ لا نبتغي الجاهلين‏:‏ لا نطلب صحبتهم‏.‏

قال ابن اسحاق‏:‏ قدِم جماعة من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة من الحبشة فوجدوه في المسجد، فجلسوا اليه وكلّموه وسألوه، ورجال من قريش حول الكعبة‏.‏ فلما فرغوا من اسئلتهم عما أرادوا دعاهم الرسولُ الى الله تعالى وتلا عليهم القرآن‏.‏ فلما سمعوا القرآن فاضت أعيُنهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوا الرسول، وعرفوا منه ما كان يوصَف لهم في كتابهم من أمره‏.‏ فاعترضهم أبو جهل ونفرٌ من قريش وحاولوا ان يصدّوهم عن إيمانهم‏.‏ وأغلظوا لهم القول‏.‏ فقالوا لهم‏:‏ سلامٌ عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه‏.‏

وقال بعض المفسرين‏:‏ إنهم نصارى من أهل نَجران‏.‏

والحق، أن بعض أهلِ الكتاب من النصارى يؤمنون بهذا القرآن، ويقولون‏:‏ إنه الحقُّ من ربنا، بشّرنا الله به من قبلِ ان ينزل القرآن‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ هؤلاء يعطيهم اللهُ أجرهم مرتَين نتيجةَ صبرهم على اذى الناس، وإيمانِهم، وايثارهم العملَ الصالح، وأنهم يقابلون السيئة بالعفو والاحسان، وينفقون في سبيل الله مما أعطاهم من اموال وخيرات، وإذا سمعوا الباطل من الجاهلين انصرفوا عنهم، وقالوا‏:‏ لنا أعمالُنا ولكم اعمالكم، سلام عليكم لا نريد مصاحبة الجاهلين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 61‏]‏

‏{‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ‏(‏58‏)‏ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ‏(‏59‏)‏ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏60‏)‏ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

نتخطف‏:‏ نسلب بلدنا ونقتل‏.‏ يُجبى اليه‏:‏ يجلب اليه‏.‏ بطِرت معيشتَها‏:‏ بغت وتجبّرت وكفرت بالنعمة‏.‏ أمها‏:‏ اكبرها، عاصمتها‏.‏ من المحضَرين‏:‏ الذين يحشرون للحساب والجزاء‏.‏ وقد تكرر هذا التعبير في القرآن‏:‏ ‏{‏لَكُنتُ مِنَ المحضرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 57‏]‏‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 127‏]‏ ‏{‏فأولئك فِي العذاب مُحْضَرُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 16‏]‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 38‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏

يقرر جمهور المفسرين ان هذه الآية نزلت في ابي طالب، فقد ورد في الصحيحين أنها نزلت فيه‏.‏ وروي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة أنها نزلت في أبي طالب‏.‏ ففي الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيّب‏:‏ «لما حضرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدَ الله بن أمية بن المغيرة، فقال رسول الله‏:‏ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدَ الله بن أمية بن المغيرة، فقال رسول الله‏:‏ يا عم، قل لا اله الا الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله‏.‏ فقال ابو جهل وعبد الله بن امية‏:‏ يا أبا طالب، أترغبُ عن ملّة عبد المطلب‏؟‏‏.‏ فكان آخر ما قال‏:‏ انه على ملة عبد المطلب» وعند الشيعة الامامية الاجماع على ان ابا طالب مات مسلما، والله أعلم‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ انك لا تستطيع هداية من أحببتَ من قومك او غيرهم، وانما عليك البلاغ، واللهُ يهدي من يشاء، وله الحكمة بالبالغة في ذلك‏.‏ ‏{‏وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏‏.‏

ثم اخبر سبحانه عن اعتذار كفار قريش في عدم اتّباع الهدى فقال‏:‏

‏{‏وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ‏}‏

وقال مشركو مكة‏:‏ إننا نخشى إن اتبعناك على دينك وخالفنا من حولنا من العرب ان يقصدونا بالأذى، ويُجلونا عن ديارنا، ويغلبونا على سلطاننا‏.‏

وقد رد الله عليهم مقالتهم فقال‏:‏

‏{‏أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏

إن ما اعتذرتم به غيرُ صحيح، فقد كنتم آمنين في حرمي، تأكلون رزقي، وتعبدون غير، افتخافون اذا عبدتموني وآمنتم بي‏؟‏ وقد تفضّل عليكم ربك وأطعمكم من كل الثمرات التي تُجلَب من فِجاج الارض‏.‏ ولكن اكثرهم جهلةٌ لا يعلمون ما فيه خيرهم وسعادتهم‏.‏

قراءات

قرأ الحمهور‏:‏ يُجبى بالياء وقرأ نافع‏:‏ تُجبى بالتاء‏.‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين‏}‏

وكثير من القرى أثرى أهلُها فبطِروا وأفسدوا في الأرض فخرّب الله ديارهم واصبحت خاوية لم يسكنها أحدٌ بعدهم الا فترات عابرةً للمارين بها، وورثها الله جل جلاله‏.‏ ومثلُه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ‏}‏

‏[‏هود‏:‏ 117‏]‏‏.‏

ثم اخبر سبحانه عن عدله وانه لا يُهلك أحدا الا بعد الإنذار وقيام الحجّة بارسال الرسل فقال‏:‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ‏}‏

ليست سنّة الله وعدله ان يُهلك القرى حتى يبعثَ في كُبراها رسولاً يتلو عيلهم الآياتِ ويدعوهم الى الله، ولا يمكن ان نهلك القرى والمدنَ الا اذا استمر أهلهُها على الظلم والفساد والاعتداء‏.‏

‏{‏وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏‏؟‏

وما أُعظيتم أيها الناس من أعراضِ الدنيا وزينتِها من الأموال والاولاد إلا مجرد متاعٍ محدود تتمتعون به في هذه الحياة، أما الذي عند الله فهو خيرٌ من ذلك وأبقى لأهل طاعته من ذلك كله‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أيها الناس وتتدبرون اموركم فتعرفون الخير من الشر‏!‏‏؟‏

قراءت

قرأ ابو عمرو‏:‏ يعقلون بالياء‏.‏ والباقون‏:‏ تعقلون بالتاء‏.‏

‏{‏أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين‏}‏‏؟‏

هل يستوي المؤمن الذي وعدَه الله السعادةَ والنصر ثم يوم القيامة يدخله الجنة، مع الكافر الذي أعطاه الله الرزقَ الكثير وتمتّع في حياته، ثم هو يوم القيامة من المحضَرين للحساب والجزاء، الهالكين في النار‏!‏‏!‏ انهما لا يستويان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 70‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏62‏)‏ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ‏(‏63‏)‏ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ‏(‏64‏)‏ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏65‏)‏ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏66‏)‏ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ‏(‏67‏)‏ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏68‏)‏ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏69‏)‏ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

حقّ عليهم‏:‏ وجب عليهم‏.‏ القول‏:‏ العذاب‏.‏ أغويناهم‏:‏ أضللناهم، الغواية‏:‏ الضلال والفعل غوى يغَوى غياً وغواية فهو غاو‏.‏ وفي سورة النجم ‏{‏مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى‏}‏‏.‏ فعميت‏:‏ خفيت‏.‏ الأنباء‏:‏ الحجج والاعذار، الخِيرة‏:‏ الاختيار‏.‏ تكنّ‏:‏ تخفي‏.‏ يعلنون‏:‏ يظهرون‏.‏ وله الحكم‏:‏ له القضاء النافذ في كل شيء‏.‏

اذكر ايها الرسول لقومك يومَ ينادي ربُّ العزة المشركين ويقول لهم‏:‏ أين الذين زعمتم انهم شركائي وعبدتموهم من دوني‏.‏

فيجيبه قادةُ الكفر ودعاة الضلال الذين ثَبَتَ عليهم العذابُ قائلين‏:‏ يا ربنا، هؤلاء الذين أضللناهم، إنما أغويناهم باختيارهم كما غوينا نحن‏.‏ لقد دعوناهم إلى ما نحن فضلّوا مثلنا باختيارهم، واننا نبرأ اليك منهم فما كانوا يعبدوننا في الحقيقة، وانما كانوا يعبدون أهواءهم‏.‏

ويقال للأتباع ادعوا شركاءَكم واستغيثوا بهم، ففعلوا فلم يجيبوهم، ورأوا العذابَ حاضرا، وتمنّوأنهم كانوا في دنياهم مؤمنين‏.‏

ويوم ينادي الله المشركين ويقول لهم‏:‏ بماذا أجبتم الرسَلين‏؟‏ هل آمنتم بهم‏.‏ فلا يستطيعون ان يقولوا شيئا، وغابت عنهم الحُجج، ولم يجدوا معذرة، ولا يسأل بعضهم بعضا من الدَّهَش والخوف‏.‏

وبعد ان بيّن حال الكفار المعذَّبين وما يجري عليهم من التوبيخ والاهانة- أَتبعه بذِكر من يتوب في الدنيا وما ينتظره من نعيم فقال‏:‏

‏{‏فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين‏}‏‏.‏

وأما من تاب من الشِرك، وآمن ايماناً قادقا وعمل الأعملَ الصالحةن فانهم يكونون عند الله من الفائزين برضوان الله وبالنعيم الدائم‏.‏

وربك يخلق ما يشاء ويختار ما يريد، ليس لأحدٍ الخيارُ في شيء، تنزه وتعالى عما يشركون، وربك يعلم ما تخفي صدورهم وما به يجهرون‏.‏

وهو الله لا إله يُعبد ويرجى الا هو، له الحمد في الدنيا من عباده على إنعامه وهدايته، وفي الآخرة على عدله ومثوبته‏.‏ وهو وحده صاحب الحكم والفضل، واليه المرجع والمصير‏.‏